الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ومما يحقق هذه الأمور أن المحب يجذب، والمحبوب يجذب. فمن أحب شيئًا جذبه إليه بحسب قوته، ومن أحب صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته. فإن المحب عـلته فاعلية، والمحـبوب علته غائية، وكـل منهـما لـه تأثير في وجود المعلول، والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته التي يتمثلها، فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها، لا أنها هي في نفسها قصد وفعل، فإن في المحبوب من المعنى المناسب ما يقتضى انجذاب المحب إليه، كما ينجذب الإنسان إلى الطعام ليأكله، وإلى امرأة ليباشرها، وإلى / صديقه ليعاشره، وكما تنجذب قلوب المحبين للّه ورسوله إلى اللّه ورسوله، والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من الصفات التي يستحق؛ لأجلها أن يحب ويعبد. بل لايجوز أن يحب شيء من الموجودات، لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره، لا لذاته، والرب تعالى هوالذي يجب أن يحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته و واللّه ـ تعالى ـ خلق في النفوس حب الغذاء، وحب النساء، لما في ذلك من حفظ الأبدان وبقاء الإنسان، فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم، ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل، والمقصود بوجود ذلك: بقاء كل منهم ؛ليعبدوا اللّه وحده، ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره. وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعا لمحبته، فإن من تمام حبه حب ما يحبه، وهو يحب الأنبياء والصالحين، ويحب الأعمال الصالحة، فحبها / للّه هو من تمام حبه، وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب اللّه، فالمخلوق إذا أحب للّه كان حبه جاذبًا إلى حب اللّه، وإذا تحاب الرجلان في اللّه اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه، كان كل منهما جاذبا للآخر إلى حب اللّه، كما قال تعالى: (حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، وإن للّه عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بقربهم من اللّه، وهم قوم تحابوا بروح اللّه علي غير أموال يتباذلونها، ولا أرحام يتواصلون بها، إن لوجوههم لنورًا، وإنهم لعلى كراسي من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس). فإنك إذا أحببت الشخص للّه كان اللّه هو المحبوب لذاته، فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك للّه، كما إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبله، والمرسلين وأصحابهم الصالحين، وتصورتهم في قلبك، فإن ذلك يجـذب قلبك إلى محبة اللّه المنعم عليهم، وبهم إذا كنت تحبهم للّه، فالمحبوب للّه يجذب إلى محبة اللّه، والمحب للّه، إذا أحب شخصًا للّه، فإن اللّه هو محبوبه، فهو يحب أن يجذبه إلى اللّه تعالى، وكل من المحب للّه والمحبوب للّه يجذب إلى اللّه. وهكذا إذا كان الحب لغير اللّه، كما إذا أحب كل من الشخصين / الآخر بصورة: كالمرأة مع الرجل، فإن المحب يطلب المحبوب، والمحبوب يطلب المحب، بانجذاب المحبوب، فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبًا مجذوبًا من الوجهين، فيجب الاتصال، ولو كان الحب من أحد الجانبين ؛لكان المحب يجذب المحبوب، والمحبوب يجذبه، لكن المحبوب لا يقصد جذبه، والمحب يقصد جذبه وينجذب. وهذا سبب التأثير في المحبوب، إما تمثل يحصل في قلبه، فينجذب، وإما أن ينجذب بلا محبة: كما يأكل الرجل الطعام، ويلبس الثوب، ويسكن الدار، ونحو ذلك من المحبوبات التي لا إرادة لها. وأما الحيوان، فيحب بعضه بعضًا بكونه سببًا للإحسان إليه وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، لكن هذا في الحقيقة إنما هو محبة الإحسان، لا نفس المحسن، ولو قطع ذلك لاضمحل ذلك الحب وربما أعقب بغضًا، فإنه ليس للّه عز وجل. فإن من أحب إنسانًا ؛لكونه يعطيه، فما أحب إلا العطاء، ومن قال: إنه يحب من يعطيه للّه فهذا كذب، ومحال، وزور من القول، وكذلك من أحب إنسانًا لكونه ينصره إنما أحب النصر لا الناصر. وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس، فإنه لم يحب في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب منفعة، أو دفع مضرة، فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة وإنما / أحب ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه، وليس هذا حبًا للّه ولا لذات المحبوب. وعلى هذا تجرى عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، وهذا لا يثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم، بل ربما أدى ذلك إلى النفاق والمداهنة، فكانوا في الآخرة من الأخلاء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. وإنما ينفعهم في الآخرة الحب في اللّه وللّه وحده، وأما من يرجو النفع والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه للّه، فهذا من دسائس النفوس ونفاق الأقوال. وإنما ينفع العبد الحب للّه لما يحبه اللّه من خلقه، كالأنبياء والصالحين ؛لكون حبهم يقرب إلى اللّه ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة اللّه لهم. ونبينا كان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويدع آخرين هـم أحب إليه من الذي يعطي؛ يكلهم إلى ما في قلوبهم من الإيمان، وإنما كان يعطي المؤلفة قلوبهم، لما في قلوبهم من الهلع والجزع؛ ليكون ما يعطيهم سببًا لجلب قلوبهم إلى أن يحبوا الإسلام فيحبوا اللّه، فكان مقصوده بذلك دعوة القلوب إلى حب اللّه عز وجل، وصرفها عن ضد ذلك؛ ولهذا كان يعطي أقوامًا خشية أن يكبهم اللّه على وجوههم في النار فمنعهم بذلك العطاء عما / يكرهه منهم فكان يعطي للّه ويمنع للّه. وقد قال: (من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه، فقد استكمل الإيمان)، وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني واللّه إنما أنا قاسم لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، ولكن أضع حيث أمرت). وصورة المحبوب المتمثلة في النفس يتحرك لها المحب، ويريد لها، ويحب ويبغض ويبتهج وينشرح عند ذكرها، من أي جنس كانت، فتبقى هي كالآمر الناهي له؛ ولهذا يجد في نفسه كأنها تخاطبه بأمر ونهي وغير ذلك، كما يرى كثير من الناس من يحبه، ويعظمه في منامه، وهو يأمره، وينهاه، ويخبره بأمور. والمشركون تتمثل لهم الشياطين في صور من يعبدونه، تأمرهم وتنهاهم. والقائلون بالشاهد والمنتسبون إلى السلوك يقول أحدهم: إنه يخاطب في باطنه على لسان الشاهد، فمنهم من يصلي بالليل وذاك بإزائه ليشاهده في الضوء، ومنهم من يشاهده في حال السماع في غيره، ويظنون أنهم يخاطبون ويجدون المريد في قلوبهم بذلك، وذلك لأنهم يتمثلونه في أنفسهم، وربما كان الشيطان يتمثل في صورته، فيجدون في نفوسهم خطابا من تلك الصورة، فيقولون: خوطبنا من جهته. وهذا وإن كان موجودًا في / المخاطب فمن المخاطب له ؟ فالفرقان هنا. فإنما ذلك المخاطب من وسواس الشيطان والنفس. وقد يخاطبون بأشياء حسنة رشوة منه لهم، ولا يخاطبون بما يعرفون أنه باطل؛لئلا ينفرون منه، بل الشيطان يخاطب أحدهم بما يري أنه حق، والراهب إذا راض نفسه فمرة يرى في نفسه صورة التثليث، وربما خوطب منها؛لأنه كان قد يتمثلها قبل ذلك، فلما انصقلت نفسه بالرياضة ظهرت له، والمؤمن الذي يحب اللّه ورسوله يرى الرسول في منامه بحسب إيمانه، وكذلك يري اللّه تعالى في منامه بحسب إيمانه، كما قد بسط في غير هذا الموضع. ولهذا كثير من أهل الزهد والعبادة يكون من أعوان الكفار، ويزعم أنه مأمور بذلك، ويخاطب به ويظن أن اللّه هو الذي أمره بذلك، واللّه منزه عن ذلك، وإنما الآمر له بذلك النفس والشيطان ومافي نفسه من الشرك، إذ لو كان مخلصًا للّه الدين، لما عرض له شيء من ذلك، فإن هذا لا يكون إلا لمن فيه شرك في عبادته، أو عنده بدعة، ولا يقع هذا لمخلص متمسك بالسنة البتة. وإذا كانت الرؤيا، على ثلاثة أقسام: رؤيا من اللّه. /ورؤيا من حديث النفس. ورؤيا من الشيطان. فكذلك ما يلقي في نفس الإنسان في حال يقظته ثلاثة أقسام. ولهذا كانت الأحوال ثلاثة: رحماني، ونفساني، وشيطاني. وما يحصل من نوع المكاشفة والتصرف ثلاثة أصناف: ملكي، ونفسي، وشيطاني، فإن الملك له قوة، والنفس لها قوة، والشيطان له قوة، وقلب المؤمن له قوة، فما كان من الملك ومن قلب المؤمن، فهو حق، وما كان من الشيطان ووسوسة النفس، فهو باطل. وقد اشتبه هذا بهذا على طوائف كثيرة، فلم يفرقوا بين أولياء اللّه وأعداء اللّه، بل صاروا يظنون في من هو من جنس المشركين والكفار ـ أهل الكتاب من وجوه كثيرة ـ أنه من أولياء اللّه المتقين. والكلام في هذا مبسوط في موضع آخر. ولهذا في هؤلاء من يرى جواز قتال الأنبياء، ومنهم من يرى أنه أفضل من الأنبياء، إلى أنواع أخر. وذلك ؛لأنه حصل لهم من الأنواع الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الأولياء، فظنوا / أنهم منهم، فكان الأمر بالعكس. وأصل هذا أنهم تعبدوا بما تحبه النفس، وأما العبادة بما يحبه اللّه ويرضاه، فلا يحبونه ولا يريدونه وحده، ويرون أنهم إذا عبدوا اللّه بما أمر به ورسله حط لهم عن منصب الولاية، فيحدثون محبة قوية وتألهًا وعبادة وشوقًا وزهدًا، ولكن فيه شرك وبدعة. ومحبة التوحيد: إنما تكون للّه وحده على متابعة رسوله، كما قال تعالى:
/قَالَ شَيْخُ الإِسْـلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ أَيْضًا: قد كتبت في كراسة الحوادث فصلا في: جماع الزهد والورع. وإن الزهد: هو عما لا ينفع، إما لانتفاء نفعه، أو لكونه مرجوحًا؛ لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه. وأما المنافع الخالصة، أو الراجحة فالزهد فيها حمق وأما الورع، فإنه الإمساك عما قد يضر، فتدخل فيه المحرمات والشبهات ؛لأنها قد تضر. فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه. وأما الورع، عما لا مضرة فيه، أو فيه مضرة مرجوحة ـ لما / تقترن به من جلب منفعة راجحة، أو دفع مضرة أخرى راجحة ـ فجهل وظلم. وذلك يتضمن: ثلاثة أقسام لا يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضلالة. وأنا أذكر هنا تفصيل ذلك فأقول: الزهد، خلاف الرغبة. يقال: فلان زاهد في كذا. وفلان راغب فيه. و الرغبة: هي من جنس الإرادة. فالزهد في الشيء انتفاء الإرادة له، إما مع وجود كراهته، وإما مع عدم الإرادة والكراهة، بحيث لايكون لا مريدًا له، ولا كارهًا له، وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه. وكما أن سبيل اللّه يحمد فيه الزهد، فيما زهد اللّه فيه من فضول الدنيا، فتحمد فيه الرغبة والإرادة لما حمد اللّه إرادته، والرغبة فيه؛ ولهذا كان أساس الطريق الإرادة. كما قال تعالى: /كما رغـب فـي الزهـد، وذم ضـده فـي قولـه: [هود: 15، 16]، وقال تعالى: وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي، من غيره، وهو الزهد المحمود، وتميز الرغبة الشرعية، من غيرها، وهي الرغبة المحمودة، فإنه كثيرًا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الأوامر الشرعية، وكثيرًا ما تشتبه الرغبة الشرعية بالحرص، والطمع، والعمل الذي ضل سعى صاحبه. وأما الورع، فهو اجتناب الفعل واتقاؤه، والكف والإمساك عنه والحذر منه، وهو يعود إلى كراهة الأمر، والنفرة منه، والبغض له، وهو أمر وجودي أيضًا ـ وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي. هل هو عدم المنهى عنه، أو فعل ضده؟ وأكثر أهل الإثبات على الثاني ـ فلا ريب أنه لايسمى ورعًا، ومتورعًا، ومتقيًا، إلا إذا وجد منه الامتناع والإمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه. /والتحقيق: أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه، وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك، ومع وجود الامتناع والاتقاء والاجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى، فيحصل له منفعة هذا العمل، من حمده وثوابه، وغير ذلك، فعدم المضرة لعدم السيئات، ووجود المنفعة لوجود الحسنات. فتلخص أن الزهد من باب عدم الرغبة، والإرادة في المزهود فيه. والورع من باب وجود النفرة، والكراهة للمتورع عنه، وانتفاء الإرادة، إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة، وأما وجود الكراهة، فإنما يصلح فيما فيه مضرة خالصة أو راجحة، فأما إذا فرض مالا منفعة فيه ولا مضرة، أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه، فهذا لا يصلح أن يراد، ولا يصلح أن يكره، فيصلح فيه الزهد، ولا يصلح فيه الورع، فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد، من غير عكس، وهذا بين، فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح أن لا يراد ولا يرغب فيه، فإن عدم الإرادة أولى من وجود الكراهة، ووجود الكراهة مستلزم عدم الإرادة من غير عكس، وليس كل ما صلح أن لا يراد يصلح أن يكره، بل قد يعرض من الأمور مالا تصلح إرادته ولا كراهته، ولا حبه ولا بغضه ولا الأمر به، ولا النهي عنه. /وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات، لا يصلح فيها زهد ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات، فيصلح فيها الزهد والورع. وأما المباحات، فيصلح فيها الزهد دون الورع، وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل. وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل. هل هو مأمور به، أو منهي عنه، أو مباح؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما يجعله مأمورًا به، أو منهيًا عنه، أو اقترن بالمأمور به، مايجعله منهيًا عنه وبالعكس. فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها، يحتاج إلى الفرقان.
|